في عصر يتَّسم بالتقدم التكنولوجي المتسارع، والنهَم الجماهيري لاختبار مختلف التجارب التفاعلية، إشباعاً للفضول، أو ركوباً لموجة «الترند»، برزت رواية القصص التفاعلية بصفتها اتجاهاً قويّاً يُعيد تشكيل مشهد استهلاك المحتوى الإعلامي بكل أنواعه، فقد ولَّت أيام التلقي السلبي للخبر والقصة، وحلَّ محلها التوق اللامتناهي إلى التفاعل الآني، ما دفع كثيراً من صنَّاع المحتوى إلى استكشاف طرق وأساليب جديدة لصياغة قصص تشجع على المشاركة النشيطة من قِبل الجمهور.
وتتربَّع على عرش هذه التجارب شركات عملاقة عابرة للمكان والزمان مثل «نتفلكس» بمحتواها التفاعلي، الذي يتيح للمشاهدين اتخاذ خيارات تُملي مسار القصة كما في نموذج «سلسلة المرايا السوداء»، إذ يمثل هذا التحول من رواية القصص الخطيَّة إلى تجربة سردية أكثر ديناميكية تعتمد على المستخدم تطوراً أساسيّاً في طريقة السرد القصصي، واستهلاكه.
إن أحد الدوافع الرئيسية وراء شعبية السرد القصصي التفاعلي هو قدرته على تعزيز شعور أعمق بالانغماس والتواصل مع السرد، فعن طريق وضع المتلقي في مقعد المتحكم يقوم المبدعون بتمكينه من تشكيل تجربته الفريدة التي من سماتها التخصيص والإثارة، إضافة إلى مضاعفة عدد المشاهدات وتكرارها، ما يساعد على اكتشاف مسارات ونتائج متفرعة للقصة الأصلية. وقد فتح السرد القصصي بوابة لاكتشاف معضلات أخلاقية، وموضوعات معقدة بطريقة تبدو فورية ومؤثرة، عن طريق مواجهة المتلقي بخيارات وعواقب صعبة تحفز التفكير والحوار الهادف، ما يطمس الحدود الفاصلة بين الترفيه والفن التفاعلي.
وبعيداً عن الترفيه وجد هذا الفن تطبيقات مختلفة في التعليم والتسويق بل حتى في العلاج، معتمداً على تطبيقاته الغامرة في التثقيف والإقناع، فيؤكد البحث العلمي التأثير العميق للسرد القصصي، المحفور في عمق خريطتنا الجينية. وكشفت دراسات في علم الأعصاب تستخدم تقنيات مثل الرنين المغناطيسي الوظيفي عن نشاط عصبي متزايد عندما يتعامل الأفراد مع الروايات التفاعلية، إذ تحفز العناصر التفاعلية في السرد القصصي مناطق الدماغ المرتبطة بالانتباه والعاطفة والذاكرة. أما في التعليم، فقد برز السرد القصصي بصفته أداةً فعَّالةً تستخدم المحاكاة وسيناريوهات اتخاذ القرار التي تؤدي إلى جذب انتباه المتعلمين، وتعميق فهمهم وتعزيز مشاركتهم النشيطة في العملية التعليمية. وقد قدمت دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً جيداً لتطبيق السرد القصصي الرقمي لتعزيز الهوية الوطنية عند الجيل الجديد.
وأخيراً مثَّلت تطبيقات هذا الفن وأدواته علامة فارقة في مجال التسويق، وسلوك المستهلك، وتعزيز العلامات التجارية، إذ يشير علم نفس المستهلك إلى أهمية التجارب التفاعلية لتعزيز الروابط العاطفية مع المنتجات والخدمات والمستهلكين، كما أن إشراك الجمهور في عملية سرد القصص تُمكّن العلامات التجارية من إنشاء تجارب لا تُنسى ذات صدى عميق، وتأثير في قرارات التفاعل، وتبني الأفكار والشراء. ومرةً أخرى تقدم دولة الإمارات نموذجاً ناجحاً في الاستثمار بهذا المجال، إذ تستفيد الشركات من التقنيات مثل الواقع الافتراضي (VR)، والواقع المعزز (AR) لتعزيز تجارب التسويق والمستهلكين. ويقدم قطاع السياحة والترفيه جولات واقع افتراضي، كما تستخدم العلامات التجارية للبيع بالتجزئة تطبيقات الواقع المعزز للتجارب الافتراضية المبنية على الألعاب، والتنشيط التجريبي للعلامات التجارية.
كلُّ المؤشرات تدل على أن مستقبل رواية القصص تفاعلي بلا شك، وعن طريق تبني هذا الاتجاه، وتسخير قوة التفاعل، تُتاح للمبدعين والمؤسسات فرص لانهائية لجذب الجماهير بطرق لم يكن ممكنًا تصورها من قبل، ما يبشر بعصر جديد تسوده القصة، ويتحكم في خيوطه «الرواة التفاعليون الجدد».
*مدير إدارة التسويق والاتصال الحكومي في معهد الإمارات المالي